الأزمة الليبية.. أردوغان في مصيدة طرابلس

الرئيس التركي أردوغان
الرئيس التركي أردوغان

حسين عبد الراضي

تسوق القنوات التركية والقطرية، وغيرها من وسائط الاعلام العثمانى الناطق بالعربية، لتحركات «أردوغان» فى ليبيا بأنها انتصار للشرعية ودفاع عن الأمن القومى، وغيرها من المسميات التى يجرى توظيفها فى سياقات التداول الإعلامى والرسمى كوسيلةً لإخفاء الانتهاكات والأطماع، وتتجاهل تلك الأبواق حقيقة أن النزاع الليبى كان صراعًا داخليًا حتى انتهكت أنقرة قرارات مجلس الامن، وفتحت جسور جوية وبحرية لنقل العناصر الإرهابية والمرتزقة والسلاح إلى مناطق الغرب الليبي، دافعةً ليبيا نحومنزلق سيقوض جهود خفض التصعيد، وإشعال دورات صراعية جديدة تمزق ما تبقى من النسيج الاجتماعى المهترئ، بشكل يهدد سلامة الدولة الوطنية الليبية الموحدة.


تصطف تلك الأبواق المضللة خلف طموحات الرئيس التركى «أردوغان» الزائفة، والتى يسعى الأخير لبيعها لمواطنيه أملًا فى حشد الدعم المنحسر عن إدارته، ولابتزاز المعسكر الغربى المحسوب عليه والمهتم بالتطورات فى ليبيا، وللتسلسل شيئًا فشيئًا نحواستعادة الإرث العثمانى الساقط. وتشتمل تحركات الرئيس التركى فى ليبيا جملة من الاتجاهات، تتنوع بين الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها، والتى تمثل كل منها عاملًا محفزًا للتحرك نحوتطويق الدولة المأزومة بشكل ينتهك القانون الدولي، ومخرجات المؤتمرات والمبادرات الدولية التى جرى فيها إرساء ثوابت التعاطى مع الصراع الليبى لخفض حدته وتفعيل مسارات الحوار السياسى كمؤتمر برلين يناير 2020. 


 ويندفع «أردوغان» بشكل لاعقلانى نحومستنقع مواجهة اقليمية لا يدرك بشكل كافٍ كُلفة الخروج منه، ولكن طموحاته فى ليبيا تمنعه من رؤية حقيقة ماهومُقبل عليه، وان كافة أطماعه هى سراب لن يستطيع التحصل عليها مهما بذل فى سبيل ذلك. وعلى رأس تلك المطامع إستعادة ولاية «طرابلس» العثمانية، وجعلها قاعدةً للارتكاز فى شمال افريقيا وبوابة للنفاذ إلى شرق المتوسط والقارة الافريقية، والتمدد العثمانى ضمن مشروع «الوطن الازرق» المزعوم. ولكن غاب عن النظام التركى أن دخوله إلى غرب ليبيا هوتحالف وقتى نتيجة ظروف مؤقته، وأن معركة طرابلس وتشطى المليشيات هوما دفع السراج لاستجلاب مرتزقة «أردوغان»، وأن تسوية القضية الليبية عاجلًا أوآجلًا ستبدد حلمه فى ولاية «طرابلس».


 ولم يتوان الاتراك فى إظهار نواياهم التوسعية جنوب المتوسط، وسارع مندوبو «أردوغان» إلى طرابلس ومصراتة والخمس لمعاينة ما ستقدمه حكومة الوفاق الوطنى كمقابل للدور التركي. وكشفت تقارير عن استقرار الامر على ثلاث قواعد بحرية وجوية لتكون نواة للانتشار العسكرى التركى الاوسع فى مناطق غرب ليبيا، وهى قاعدة الوطية غربًا، وقاعدة معتيقية بالعاصمة طرابلس، وقاعدة مصراتة البحرية. وتغافل النظام التركى عن حقيقة أن وجود قواته بهذا النمط لن يستقيم مع أمن ومصالح دول الجوار وأوروبا، وأن مجموعات المرتزقة التى استجلبها إلى ليبيا لن يُسمح لها بالاستمرار فى الاراضى الليبية. ولعل أبرز دلالات ذلك تدمير الاصول العسكرية ومنظومات الدفاع الجوى التركية فى قاعدة الوطية، بعد أقل من 48 ساعة على وصولها إلى القاعدة، ما يؤشر على أن وجود العسكريين الاتراك والمرتزقة فى ليبيا هومطمع أردوغانى زائل لا محالة.


وفتحت وضعية ليبيا ما بعد 2011 شهية «أردوغان» على استنزاف ثرواتها، لاسيما مع تراجع الاقتصاد التركى بشكل ملحوظ، وتتعدد مداخل هذا الاتجاه ففى البداية هناك الاستحواذ على مكامن النفط والغاز الليبي، إلى جانب عقود إعادة الاعمار التى تتوافد مجموعات من المستثمرين الاتراك للاتفاق عليها، ثم هناك فرصة التلويح بورقة مهددة لمصالح وحقوق دول شرق المتوسط فى مياههم الاقتصادية. إلا أنه لم يدرك واقع أن 70% من مكامن النفط الليبى يقع بالشرق، وأن ما وقعه من اتفاقيات بحرية واقتصادية معدوم الاثر طالما رفض البرلمان الليبى التصديق عليه، فضلًا عن وجود شركات أوروبية تمثل مصالح دولها لديها حصص لن تقبل المساس بها بأية حال، لذلك فالنفط الليبى وفرض واقع جديد على مسرح التنقيب بشرق المتوسط هوحلم آخر تبدد قبل أن يجنى منه الاتراك أية مكتسبات.  


سعى النظام التركى لاستعراض قدراته المرتبطة بالتصنيع العسكري، وتسويقها على أنها أنظمة قتالية تحقق تحولات ملموسة فى خضم المواجهات الميدانية، وظهرت المدرعات «كيربي» والطائرات المسيرة «بيرقدار» وغيرها من العتاد العسكرى التركى فى أيدى ميليشيات الوفاق. ولكن الجيش الوطنى الليبي، رغم محدودية إمكانياته وحظر التسليح المفروض عليه، تمكن من مواجهة التسليح التركي، وكسر الصورة التى رغبت تركيا فى تشكيلها حول تلك المعدات. وتساقطت المسيرات التركية تباعًا وتمكنت وحدات الجيش من اغتنام المدرعات التركية، لتظهر حقيقة أن تلك الصناعات العسكرية ليست بالمستوى الذى يسوق له العثمانيون الجدد، وتبددت من جديد أطماع «أردوغان» فى تصدير أنها المجمع الصناعى العسكرى المستقبلى بالشرق الأوسط.  


 حاول أردوغان إيجاد موطئ قدم فى ليبيا ليجنى مزيد من أوراق الضغط على المعسكر الغربى (الاوروبى الامريكي)، فتارة يشير إلى أنه يمثل المصالح الغربية ويسعى لمواجهة الفوذ الروسى فى جنوب المتوسط، وتارة أخرى نجده ينقل عناصر التنظيمات الإرهابية والمتطرفة إلى بوابات الغرب الليبى تهريب البشر إلى أوروبا، إلى جانب دخول النظام الايرانى إلى معسكر تركيا الداعم لحكومة الوفاق. وهذه المراوحة بين ابتزاز أوروبا بورقة المهاجرين، وانتهاك تركيا للحقوق القبرصية اليونانية، وعلاقاته غير المحسومة مع طهران وموسكو، هى أساس التحرك الذى قد يقوده حلفاء أنقرة لتحجيمها والحد من خطورتها وتحركاتها على مصالحهم، وهوما سيقود إلى تبديد رغبات «أردوغان» فى لعب دورًا اقليميًا وأن يصبح قلب فى قلب تفاعلات المنطقة.


 وبذلك فإن أطماع «أردوغان» التى دفعته للتدخل فى ليبيا تتبدد باستمرار، ومع تحديد مصر للخط الأحمر (سرت-الجفرة)، كخط لوقف العمليات العسكرية وبدء المسار السياسى للتسوية، فقد أصبحت مُجمل التحركات التركية فى ليبيا دون جدوى، وأصبحت تلك المغامرة العثمانية أمام تحديات كبرى. فالمشروع التركى العثمانى قد تمدد بشكل يفوق قدرات الدولة التركية الاقتصادية، وافقدت تلك التحركات أنقرة الكثير من الحلفاء فى الناتووغيرهم من المتعاونين داخل القارة الاوروبية، بل وأصبحت مهددًا لأمنهم ومصالحهم وافقدهم ما كان متبقٍ من ثقة فى نوايا هذا النظام. كما أن الانتهاكات التركية المستمرة لحقوق الانسان وارتباطها بنشاط التنظيمات الإرهابية وسلوك الرئيس»أردوغان» أصبحت كلها عوامل ضعف ستقود بالنهاية إلى انكشافه عالميًا، والحد من تصرفاته العدوانية اقليميًا ودوليًا. وهوما يقودنا إلى التأكيد أن ما تروج له منابر الفتنة التركية والمنصات المعادية للدول الوطنية العربية، لهى دليلًا دامغًا أن ما المشروع العثمانى الذى تبناه أردوغان لم يتخط يومًا كونه أطماعا وطموحات زائفة، وأنها لن تتجاوز ذلك المدى فى ظل وقوف القوى الاقليمية، وفى صدارتها مصر، مصطفةً خلف مشروع الدولة الوطنية ودفاعها عنه.